تحديات تاريخية تواجه المؤتمر الوطني الأفريقي في انتخابات جنوب أفريقيا

المؤلف: عطا المنان بخيت10.29.2025
تحديات تاريخية تواجه المؤتمر الوطني الأفريقي في انتخابات جنوب أفريقيا

تستعد جنوب أفريقيا لإجراء انتخابات برلمانية حاسمة في التاسع والعشرين من مايو/أيار الجاري، والتي تمثل منعطفًا تاريخيًا حرجًا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم. فبعد ثلاثة عقود من الهيمنة السياسية، تشير أغلب استطلاعات الرأي إلى احتمال فقدان الحزب للأغلبية البرلمانية التي احتفظ بها بثبات منذ فجر الديمقراطية التعددية عام 1994.

ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: ما الأهمية الجوهرية لهذه الانتخابات؟ تكمن الإجابة في طبيعة النظام السياسي الجنوب أفريقي، الذي يعتمد النظام البرلماني. وبالتالي، فإن الحزب الذي يحظى بأكبر تمثيل في البرلمان هو الذي ينتخب رئيسًا للجمهورية. ما يعني أن خسارة حزب المؤتمر الوطني للأغلبية ستضع عقبات جمة أمام إعادة انتخاب الرئيس الحالي، سيريل رامافوزا، لولاية رئاسية ثانية.

ما هي حظوظ حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في هذه الانتخابات المصيرية؟ وما الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبيته، بعد أن ظل متربعًا على عرش السياسة الجنوب أفريقية طيلة ثلاثين عامًا؟ ومن هم أبرز المنافسين الذين يهددون هيمنته؟

يمثل عام 1994 علامة فارقة في تاريخ جنوب أفريقيا، فهو العام الذي طوت فيه البلاد صفحة الماضي المظلم، وانتصرت إرادة الشعب الذي قاوم ببسالة عقودًا من التمييز العنصري الذي فرضته الأقلية البيضاء بقوة السلاح. في هذا العام، شهدت البلاد أول انتخابات ديمقراطية تعددية، أسفرت عن وصول القائد التاريخي الملهم، نيلسون مانديلا، إلى السلطة.

وإذا كانت مسيرة النضال المريرة من أجل الحرية قد خاضها الشعب الجنوب أفريقي بأكمله، فإن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي كان القوة المحركة لهذا النضال، والقائد الملهم لحركة المقاومة السياسية والعسكرية ضد الأقلية البيضاء الحاكمة آنذاك. لقد تحمل قادة الحزب أشد أنواع القمع والاضطهاد من قبل نظام الفصل العنصري، وسطر الحزب ملحمة تاريخية بمداد من نور، ستبقى محفورة في الذاكرة الأفريقية والإنسانية جمعاء.

حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو حزب عريق الجذور، تأسس عام 1912، بهدف الدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء في وجه السيطرة المستبدة للأقلية البيضاء. ويُعتبر بذلك، أقدم حركة تحررية في القارة الأفريقية. وعلى مر تاريخه المفعم بالتحديات، واجه الحزب صنوف التضييق والقمع والحل، وتعرض قادته للاعتقال والتعذيب والتنكيل. إلا أن الحزب ظل دائمًا في طليعة الصفوف، يقود الجماهير، ويواجه سياسة الفصل العنصري بكل عزيمة وإصرار.

وفي عام 1960، تحول حزب المؤتمر الأفريقي إلى حركة مقاومة شاملة، وأنشأ جناحًا عسكريًا أطلق عليه اسم "رمح الأمة". وكلف نيلسون مانديلا هذا الجناح العسكري بمهمة المقاومة المسلحة ضد نظام الأقلية البيضاء. ولكن بعد الانتصار في معركة التحرير واستعادة إرادة الشعب، تحول شعار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من المقاومة إلى إعادة البناء وتوحيد الأمة، وتلاشى جناح المقاومة المسلحة الذي يمثله "رمح الأمة".

ومنذ أول انتخابات تعددية، أصبح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو الحزب الأكبر والأكثر تأثيرًا في البلاد، والمهيمن على الساحة السياسية. وقد فاز بأغلبية المقاعد في جميع الانتخابات البرلمانية التي جرت على مدار الثلاثين عامًا الماضية من عمر جنوب أفريقيا الحرة. وبفضل هذه الأغلبية المطلقة في البرلمان، تمكن الحزب من تقديم رؤساء البلاد الأربعة الذين تعاقبوا على الحكم خلال هذه الفترة، وهم بالترتيب: نيلسون مانديلا، وثابو أمبيكي، وجاكوب زوما، والرئيس الحالي سيريل رامافوزا.

فاتورة السلطة المكلفة

على الرغم من هذا التاريخ الزاخر بالإنجازات، يواجه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تحديًا جمًا في الانتخابات البرلمانية المقررة في نهاية هذا الشهر. فلأول مرة، يواجه الحزب غضبًا شعبيًا متزايدًا واستياء واسع النطاق من أدائه التنفيذي. كما يواجه معارضة داخلية شرسة يقودها بعض الرموز التاريخية في الحزب، وعلى رأسهم الرئيس السابق جاكوب زوما.

ويرى العديد من أنصار الحزب أنه لم يتمكن من الحفاظ على المبادئ الأساسية التي وضعها القائد نيلسون مانديلا، وعلى رأسها إهمال قضايا الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية، وهي المبادئ التي ناضل من أجلها شعب جنوب أفريقيا لعقود طويلة وقدم في سبيلها تضحيات جسيمة. كما أن أداء الحزب قد تدهور بشكل ملحوظ في مجال إعادة الإعمار وبناء الأمة، وهو الشعار الذي حدده مانديلا للحزب بعد انتهاء حقبة المقاومة الشاملة بانتهاء نظام الفصل العنصري.

ومن بين الانتقادات اللاذعة الموجهة للحزب وقادته، تهم الفساد التي باتت تلاحق عددًا من كبار قادة الحزب ومسؤوليه على المستويين المركزي والولائي. ويُتهم الحزب أيضًا بالتساهل في مكافحة الفساد، والتقاعس عن محاسبة قادته الذين وجهت إليهم اتهامات فساد عديدة.

ومن جانب آخر، يعاني المواطنون من تدهور الخدمات الأساسية، وعلى رأسها أزمة الطاقة التي تجسدت في الانقطاعات المتكررة للكهرباء وضعف خدمات المياه، بالإضافة إلى غلاء المعيشة وتدهور مستوى التعليم. وعلاوة على ذلك، لم ينجح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في تبني مقاربة فعالة للحد من الفقر المتفشي ورفع مستوى معيشة المواطنين، وهي قضايا ملحة من شأنها أن تقلب الرأي العام ضد أي حزب حاكم، مهما كان تاريخه النضالي حافلًا بالبطولات. يُضاف إلى ذلك، ضعف الجهود المبذولة لمكافحة الجريمة المنظمة التي ارتفعت بشكل كبير، وأصبحت تشكل تهديدًا خطيرًا لسكان المدن الكبرى، وخاصة الجرائم الموجهة ضد النساء.

كما تعثرت جهود الحزب وسياساته في مجال مكافحة البطالة المتفشية بين الشباب، مما أدى إلى عزوف قطاعات واسعة من الشباب عن المشاركة في الحياة السياسية، على عكس آبائهم الذين كانوا شغوفين بالسياسة ومؤمنين بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، أكثر من إيمان قدامى الإنجليز بالديمقراطية.

ونتيجة لكل هذه الأسباب، تراجعت شعبية حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بشكل ملحوظ، وتشير آخر الاستطلاعات إلى أن شعبيته انخفضت إلى حوالي 40% فقط من أصوات الناخبين، مما يهدد مستقبل الحزب السياسي، وربما يحرمه للمرة الأولى من الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان في الانتخابات المقبلة.

جاكوب زوما يخلط الأوراق

وفي تطور مقلق للغاية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، أعلن الرئيس السابق للحزب ورئيس الجمهورية السابق، جاكوب زوما، تمرده على الحزب الحاكم، وصرح بأنه سيدعم حزب "رمح الأمة" الذي أُنشئ حديثًا في عام 2023، تيمنًا بحركة "رمح الأمة" المسلحة التي أسسها نيلسون مانديلا في عام 1960.

ويرى البعض أن الحزب الجديد قد نشأ بتوجيه من الرئيس زوما نفسه. ويعتبر تمرد الرئيس جاكوب زوما تطورًا خطيرًا، نظرًا للدعم الشعبي الكبير الذي يحظى به، وخاصة في مسقط رأسه إقليم كوازولو ناتال، ولدوره التاريخي كأحد أعمدة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. فهو أحد المقربين من نيلسون مانديلا ورافقه في السجن لأكثر من عشر سنوات، وظل في موقع القيادة في الحزب والحكومة حتى استقالته القسرية من رئاسة الجمهورية في عام 2018 بتهم الفساد والمحسوبية.

ويبدو أن جاكوب زوما لم ينس المؤامرة التي حيكت ضده عندما كان رئيسًا للجمهورية، ولم يغفر الحكم الذي أصدرته المحكمة بسجنه، والذي اعتبره محاكمة سياسية. لقد تطور الصراع بين زوما وحزب المؤتمر بشكل خطير في الأشهر الأخيرة، ووصل إلى المحاكم مرة أخرى. وعلى الرغم من أن جاكوب زوما لن يخوض الانتخابات، بسبب تجاوزه الثمانين من عمره، فإنه لا يزال قادرًا على إلحاق الضرر بحزب المؤتمر، فهو سياسي محنك، وخطيب مفوه، ومستودع أسرار فيما يخص حزب المؤتمر وتاريخه وحاضره وخفاياه. ولذلك، فإن الصراع مع جاكوب زوما هو أكبر تحد يواجه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في انتخابات مايو/أيار القادمة.

وفي مواجهة هذه التحديات الجسيمة، طرح حزب المؤتمر الأفريقي برنامجًا طموحًا يقوم على تعزيز مكاسبه طوال الثلاثين عامًا الماضية، ووعد بفتح المجال على مصراعيه أمام الشباب في قيادة الحزب، والاهتمام بركائز التنمية ومعيشة الناس. ويأمل الحزب أن يتمكن هذا البرنامج الطموح من إقناع قواعده بالتصويت له للحصول على الأغلبية البرلمانية. وإذا لم ينجح في تحقيق ذلك، فلن يكون أمامه خيار آخر سوى التحالف مع أحد الأحزاب الثلاثة الكبرى التي تخوض الانتخابات، وهو تحالف لن يكون سهلًا على الإطلاق.

وبالنظر إلى مواقف الأحزاب الكبرى، قد يجد حزب المؤتمر الأفريقي أن أقرب الأحزاب إليه هو حزب التحالف الديمقراطي، وهو الحزب الذي تحظى بدعم الأقلية البيضاء. وإذا ما تحقق ذلك، فسينطبق على حزب المؤتمر الوطني الأفريقي قول أبي الطيب المتنبي: "ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدوًا له ما من صداقته بدّ".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة